فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرئ {يستسحرون} بالحال المهملة أي يعدونها سحرًا.
{يوَقَالُواْ إِن هذا} ما يرونه من الآيات الباهرة {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر سحريته في نفسه.
{أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما} أي كان بعض أجزائنا ترابًا وبعضها عظامًا وتقديم التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البادية، وإذا إما شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي نبعث وفي عاملها الكلام المشهور، وإما متمحضة للظرفية فلا جواب لها ومتعلقها محذوف يدل عليه ذلك أيضًا لا هو لأن ما بعد إن واللام لا يعمل فيما قبله أي انبعث إذا متنا، وإن شئت فقدره مؤخرًا فتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية لع غاية المنافاة، وكذا تكرير الهمزة للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن، واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة.
وقرأ ابن عامر بطرح الهمزة الأولى.
وقرأ نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية.
{أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون} مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر إن عليه أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضًا والجملة معطوفة على الجملة قبلها.
وهذا أحد مذاهب في نحو هذا التركيب.
وظاهر كلام أبي حيان في شرح التسهيل أن حذف الخبر واجب فقد قال: قال من نحا إلى هذا المذهب الأصل في هذه المسألة عطف الجمل إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما قبل عليه أنابوا حرف العطف مكانه ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا يكون جمعًا بين العوض والمعوض عنه فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد.
وثاني المذاهب أن يكون معطوفًا على الضمير المستتر في خبر إن إن كان مما يتحمل الضمير وكان الضمير مؤكدًا أو كان بينه وبين المعطوف فاصل ما والا ضعف العطف.
ونسب ابن هشام هذا المذهب والذي قبله إلى المحققين من البصريين.
وفي تأتيه هنا من غير ضعف للفصل بالهمزة بحث فقد قال أبو حيان: إن همزة الاستفهام لا تدخل على المعطوف إلا إذا كان جملة لئلا يلزم عمل ما قبل الهمزة فيما بعدها وهو غير جائز لصدارتها.
والجواب بأن الهمزة هنا مؤكدة للاستبعاد فهي في النية مقدمة داخلة على الجملة في الحقيقة لكن فصل بينهما بما فصل قد بحث فيه بأن الحرف لا يكرر للتوكيد بدون مدخوله والمذكور في النحو أن الاستفهام له الصدر من غير فرق بين مؤكد ومؤسس مع أن كون الهمزة في نية التقديم يضعف أمر الاعتداد بالفصل بها لاسيما وهي حرف واحد فلا يقاس الفصل بها على الفصل بلا في قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا} [الأنعام: 148].
وثالثها أن يكون عطفًا على محل إن مع ما عملت فيه، والظاهر أنه حينئذ من عطف الجمل في الحقيقة، ورابعها أن يكون عطفًا على محل اسم إن لأنه كان قبل دخولها في موضع رفع، والظاهر أنه حينئذ من عطف المفردات.
واعترض بأن الرفع كان بالابتداء وهو عامل معنوي، وقد بطل بالعامل اللفظي.
وأجيب بأن وجوده كلا وجود لشبهة بالزائد من حيث أنه لا يغير معنى الجملة وإنما يفيد التأكيد فقط.
واعترض أيضًا بأن الخبر المذكور كمبعوثون في الآية يكون حينئذ خبرًا عنهما وخبر المبتدأ رافعه الابتداء أو المبتدأ أو هما وخبر إن رافعه إن فيتوارد عاملان على معمول واحد.
وأجيب بأن العوامل النحوية ليست مؤثرات حقيقية بل هي بمنزلة العلامات فلا يضر تواردها على معمول واحد وهو كما ترى، وتمام الكلام في محله، وعلى كل حال الأولى ما تقدم من كونه مبتدأ حذف خبره؛ وقد قال أبو حيان: إن أرباب الأقوال الثلاثة الأخيرة متفقون على جواز القول الأول وهو يؤيد القول بأولويته، وأيًا ما كان فمراد الكفرة زيادة استبعاد بعث آبائهم بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على عقولهم القاصرة.
وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن عامر ونافع في رواية وقالوا: أو بالسكون على أنها حرف عطف وفيه الاحتمالات الأربعة إلا أن العطف على الضمير على هذه القراءة ضعيف لعدم الفصل بشيء أصلًا.
{قُلْ نَعَمْ} أي تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون والخطاب في قوله سبحانه: {وَأَنتُمْ داخرون} لهم ولآبائهم بطريق التغليب، والجملة في موضع الحال من فاعل ما دل عليه {نِعْمَ} أي تبعثون كلكم والحال إنكم صاغرون أذلاء، وهذه الحال زيادة في الجواب نظير ما وقع في جوابه عليه الصلاة والسلام لأبي بن خلف حين جاء بعظم قد رم وجعل يفته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم فقال صلى الله عليه وسلم له على ما في بعض الروايات «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» وقال غير واحد: إن ذلك من الأسلوب الحكيم.
وتعقب بأن عد الزيادة منه لا توافق ما قرر في المعاني وإن كان ذلك اصطلاحًا جديدًا فلا مشاحة في الاصطلاح واكتفى في جواب عن إنكارهم البعث على هذا المقدار ولم يقم دليل عليه اكتفاء بسبق ما يدل على جواز في قوله سبحانه {فاستفتهم} [الصافات 11] الخ مع أن المخبر قد علم صدقه بمعجزاته الواقعة في الخارج التي دل عليها قوله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً} [الصافات 41] الآية.
وهزؤهم وتسميتهم لها سحرًا لا يضر طالب الحق، والقول بأن ذلك للاكتفاء بقيام الحجة عليهم في القيامة ليس بشيء.
وقرأ ابن وثاب والكسائي {نِعْمَ} بكسر العين وهي لغة فيه.
وقرىء {قَالَ} أي الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
{فَإِنَّمَا هي زَجْرَةٌ واحدة} الضمير راجع إلى البعثة المفهومة مما قبل، وقيل للبعث والتأنيث باعتبار الخبر.
والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه صاح عليها.
والمراد بها النفخة الثانية في الصور ولما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازًا.
والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أو تعليلية لنهي مقدر أي إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة واحدة أو لا تستصعبوها فإنما هي زجرة.
وجوز الزجاج أن تكون للتفسير والتفصيل وما بعدها مفسر للبعث.
وتعقب بأن تفسير البعث الذي في كلامهم لا وجه له والذي في الجواب غير مصرح به.
وتفسير ما كني عنه بنعم مما لم يعهد.
والظاهر أنه تفسير لما كني عنه بنعم وهو بمنزلة المذكور لاسيما وقد ذكر ما يقوى إحضاره من الجملة الحالية.
وعدم عهد التفسير في مثل ذلك مما لا جزم لي به.
وأبو حيان نازع في تقدير الشرط فقال: لا ضرورة تدعو إليه ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي وما ذكر معهما على قول بعضهم أما ابتداء فلا يجوز حذفه والجمهور على خلافه والحق معهم، وهذه الجلمة اما من تتمة المقول وإما ابتداء كلام من قبله عز وجل.
{فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا أو ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به.
{وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)}.
{وَقَالُواْ} أي المبعوثون، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع {يَا وَيْلَنَا} أي يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك {وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين} استئناف منهم لتعليل دعائهم الويل.
والدين بمعنى الجزاء كما في كما تدين تدان أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا، وإنما علموا ذلك لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضًا.
{هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} كلام الملائكة جوابًا لهم بطريق التوبيخ والتقريع، وقيل: هو من كلام بعضهم لبعض أيضًا، ووقف أبو حاتم على {يا ويلنا} وجعل ما بعده كلام الله تعالى أو كلام الملائكة عليهم السلام لهم كأنهمأجابوهم بأنه لا تنفع الولولة والتلهف، والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل عن الآخر بدون قضاء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}.
الفاء تفريع على قوله: {إنَّا زيَّنا السَّماء الدنيا بزينةٍ الكواكب} [الصافات 6] باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإِن شاء، أي فسَلْهُم عن إنكارهم البعث وإحالتِهم إعادةَ خلقهم بعد أن يصيروا عظامًا ورفاتًا، أخَلْقُهم حينئذٍ أشدّ علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة؟
وضمير الغيبة في قوله: {فَاستفتِهِم} عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات.
وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي فسَلْهم، وهو سؤال محاجة وتغليط.
والاستفتاء: طلب الفَتوى بفتح الفاء وبالواو، ويقال: الفُتْيَا بضم الفاء وبالياء.
وهي إخبار عن أمر يخفَى عن غير الخواصّ في غرض مَّا.
وهي:
إمّا إخبار عن علم مختص به المخبِر قال تعالى: {يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات} [يوسف: 46] الآية، وقال: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176]، وتقدم في قوله: {الذي فيه تستفتيان} في سورة [يوسف: 41].
وإمَّا إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالى: {قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري} في سورة [النمل: 32].
والمعنى: فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمرًا محتاجًا إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء.
وهمزة: {أهُم أشدُّ خَلْقًا} للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماوية لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يُلجىء المستفهم إلى الإِقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام، فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام.
و{أشدّ} بمعنى: أصعب وأعسر.
و{خَلْقًا} تمييز، أي أخلقهم أشدّ أم خَلْق من خلقنا الذي سمعتم وصفه.
والمراد ب {مَن خَلَقْنا} ما خَلَقَه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفًا بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك، وهذا كقوله تعالى: {أأنتم أشد خلقًا أم السماء} [النازعات: 27] ونحوه.
وجيء باسم العاقل وهو {مَن} الموصولة تغليبًا للعاقلين من المخلوقات.
وجملة {إنا خلقناهم من طين لازب} في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله: {أهم أشد خلقًا أم من خلقنا} من الإِقرار بأنهم أضعف خلقًا من خلق السماوات وعوالمها احتجاجًا عليهم بأن تأتِّي خلقهم بعد الفناء أهون من تَأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفًا ولم تكن مخلوقة قبلُ فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولُهم: {أإذَا مِتنا وكنا تُرابًا وعِظامًا أءِنَّا لَمَبْعُوثونَ} [الصافات 16].
والطينُ: التراب المخلوط بالماء.
واللازب: اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب {لازب} في قول النابغة:
ولا يحسبون الشر ضَربةَ لازب

وقد قيل: إن باء لازب بدل من ميم لازم، والمعنى: أنه طين عتيق صار حَمْأة.
وضمير {إنَّا خلقناهُم} عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف، أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب، فإذا كان أصلهم قد أنشىء من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب.
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)}.
{بَلْ} للإِضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب.
وقرأ الجمهور {بَلْ عَجِبْتَ} بفتح التاء للخطاب.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم المخاطببِ بقوله: {فَاستَفْتِهِم} [الصافات 11].
وفعل المضيّ مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو: بِعت.
والمعنى: اعجَبْ لهم.
ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إعْراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملًا في حقيقته.
ويجوز أن يكون الكلام على تقدير همزة الاستفهام، أي بل أعجبت.
والمعنى على الجميع: أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابًا أإنا لفي خلق جديد} في سورة [الرعد: 5].
وقرأ حمزة والكسائي وخلف {بَلْ عَجِبْتُ} بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد: أن الله أسند العجب إلى نفسه.